الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (104): {نَحْنُ أَعْلَمُ بما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)}{إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي أعدلهم رأيًا وأرجحهم عقلًا و{إِذْ} ظرف يقولون {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} واحدًا وإليه ينتهي العدد في القلة.وقيل: المراد باليوم مطلق الوقت وتنكيره للتقليل والتحقير فالمراد إلا زمنًا قليلًا، وظاهر المقابلة بالعشر يبعهد، ونسبة هذا القول إلى {أمثالهم} استرجاح منه تعالى له لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق بل لكونه أعظم في التنديم أو لكونه أدل على شدة الهول وهذا يدل على كون قائله أعلم بفظاعة الأمر وشدة العذاب..تفسير الآية رقم (105): {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)}{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} السائلون منكرو البعث من قريش على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قالوا على سبيل الاستهزاء كيف يفعل ربك بالجبال يوم القيامة، وقيل: جماعة من ثقيل، وقيل: أناس من المؤمنين {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا} يجعلها سبحانه كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها، والفاء للمسارعة إلى إزالة ما في ذهن السائل من بقاء الجبال بناء على ظن أن ذلك من توابع عدم الحشر ألا ترى أن منكري الحشر يقولون بعدم تبدل هذا النظام المشاهد في الأرض والسموات أو للمسارعة إلى تحقيق الحق حفظًا من أن يتوهم ما يقضي بفساد الاعتقاد.وهذا مبني على أن السائل من المؤمنين والأول على أنه من منكري البعث، ومن هنا قال الإمام: إن مقصود السائلين الطعن في الحشر والنشر فلا جرم أمر صلى الله عليه وسلم بالجواب مقرونًا بحرف التعقيب لأن تأخير البيان في هذه المسألة الأصولية غير جائز وأما تأخيره في المائل الفروعية فجائز ولذا لم يؤت بالفاء في الأمر بالجواب في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] الآية، وقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقونَ قُلْ العفو} [البقرة: 219] وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] وقوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] إلى غير ذلك، وقال في موضع آخر: إن السؤال المذكور إما عن قدم الجبال أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر صلى الله عليه وسلم أن يجيبه بالفاء المفيدة للتعقيب كأنه سبحانه قال: يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال من غير تأخير لأن القول بقدمها أو وجوب بقائها كفر، ودلالة الجواب على نفي ذلك من جهة أن النسف ممكن لأنه ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكنًا في حق كل الجبل فليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف انتهى.واعترض بأن عدم جواز التغير والنسف إنما يسلم في حق القديم بالذات ولم يذهب أحد من السائلين إلى كون الجبال قديمة كذلك، وأما القديم بالزمان فلا يمتنع عليه لذاته ذلك بل إذا امتنع فإنما يمتنع لأمر آخر على أن في كون الجبال قديمة بالزمان عند السائلين وكذا غيرهم من الفلاسفة نظرًا بل الظاهر أن الفلاسفة قائلون بحدوثها الزماني وإن لم يعلموا مبدأ معينًا لحدوثها فتأمل، ثم إنه ذكر رحمه الله تعالى أن السؤال والجوال قد ذكرا في عدة مواضع من كتاب الله تعالى منها فروعية ومنها أصولية والأصولية في أربعة مواضع في هذه الآية وقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] وقوله سبحانه: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} [الإسراء: 85] وقوله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} [النازعات: 42] ولا يخفى أن عد جميع ما ذكر من الأصولية غير ظاهر، وعلى تقدير ظهور ذلك في الجمع يرد السؤال عن سر اقتران الأمر بالجواب بالفاء في بعضها دون بعض.وكون ما اقترن بالفاء هو الأهم في حيز المنع فإن الأمر بالجواب عن السؤال عن الروح إن كان عن القدم ونحوه فمهم كالأمر بالجواب فيما نحن فيه بل لعله أهم منه لتحقق القائل بالقدم الزماني للروح بناء على أنها النفس الناطقة كأفلاطون وأتباعه، وقد يقال: لما كان الجواب هنا لدفع السؤال عن الكلام السابق أعني قوله تعالى: {يتخافتون بَيْنَهُمْ} [طه: 103] كأنه قيل كيف يصح تخافت المجرمين المقتضى لاجتماعهم والجبال في البين مانعة عن ذلك فمتى قلتم بصحته فبينوا لنا كيف يفعل الله تعالى بها؟ فأجيب بأن الجبال تنسف في ذلك الوقت فلا يبقى مانع عن الاجتماع والتخافت، وقرن الأمر بالفاء للمسارعة إلى الذب عن الدعوة السابقة، والآية التي لم يقرن الأمر فيها بالفاء لم تسق هذا المساق كما لا يخفى على أرباب الأذواق، وقال النسفي. وغيره الفاء في جواب شرط مقدر أي إذا سألوك عن الجبال فقل، وهو مبني على أنه لم يقع السؤال عن ذلك كما وقع في قصة الروح وغيهرا فلذا لم يؤت بالفاء ثمة وأتى به هنا فيسألونك متمحض للاستقبال، واستبعد ذلك أبو حيان، وما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن قريشًا قالوا: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} الآية يدل على خلافه، وقال الخفاجي: الظاهر أنه إنما قرن بها هنا ولم يقرن بها ثمة للإشارة إلى أن الجواب معلوم له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك فأمر عليه الصلاة والسلام بالمبادرة إليه بخلاف ذلك انتهى.وأنت تعلم أن القول بأن الجواب عن سؤال الروح، وعن سؤال المحيض ونحو ذلك لم يكن معلومًا له صلى الله عليه وسلم قبل لم يتجاسر علمه أحد من عوام الناس فضلًا عن خواصهم فما ذكره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.ومما يضحك الثكلى أن بعض المعاصرين سمع السؤال عن سر اقتران الأمر هنا بالفاء وعدم اقترانه بها في الآيات الأخر فقال: ما أجهل هذا السائل بما يجوز وما لا يجوز من المسائل أما سمع قوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] أما درى أن معناه نهي من يريد السؤال عن أن يسأل. وأدل من هذا على جهل الرجل أنه دون ما قال وملم يبال بما قيل ويقال، ونقلي لذلك من باب التحميض وتذكير من سلم من مثل هذا الداء بما من الله تعالى عليه من الفضل الطويل العريض، وأمر الفاء في قوله تعالى:.تفسير الآية رقم (106): {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)}{فَيَذَرُهَا} ظاهر جدًا، والضمير إما للجبال باعتبار أجزائها السافلة الباقية بعد النسف وهي مقارها ومراكزها أي فنذر ما انبسط منها وساوى سطحه سطوح سائر أجزاء الأرض بعد نسف ما نتأ منها ونشز وأما للأرض المدلول عليها بقرينة الحال لأنها الباقية بعد نسف الجبال. وعلى التقديرين يذر سبحانه الكل {قَاعًا صَفْصَفًا} لأن الجبال إذا سويت وجعل سطحها مساويًا لسطوح أجزاء الأرض فقد جعل الكل سطحًا واحدًا والقاع قيل: السهل، وقال الجوهري: المستوى من الأرض. ومنه قول ضرار بن الخطاب:وقال ابن الأعرابي: الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء. وحكى مكي أنه المكان المنكشف، وقيل: المستوى الصلب من الأرض، وقيل: مستنقع الماء وليس راد وجمعه أقوع وأقواع وقيعان. والصفصف الأرض المستوية الملساء كان أجزاءه صف واحد من كل جهة، وقيل: الأرض التي لا نبات فيها، وعن ابن عباس. ومجاهد جعل القاع والصفصف عنى واحد وهو المستوى الذي لا نبات فيه. وانتصاب {قَاعًا} على الحالية من الضمير المنصوب وهو مفعول ثان ليذر على تضمين معنى التصيير. و{صَفْصَفًا} إما حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني وقوله تعالى: .تفسير الآية رقم (107): {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}{لاَّ ترى فِيهَا} أي في مقار الجبال أو في الأرض على ما فصل {عِوَجًا وَلا أَمْتًا} استئناف مبين كيفية ما سبق من القاع الصفصف أو حال أخرى أو صفة لقاع والرؤية بصرية والخطاب لكل من يتأتى منه. وعلقت بالعوج وهو بكسر العين ما لا يدرك بفتحها بل بالبصيرة لأن المراد به ما خفى من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المساحة الهندسية المدركة بالعقل فألحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وهذا بخلاف العوج بفتح العين فإنه ما يدرك بفتحها كعوج الحائط والعود وبهذا فرق بينهما في الجمهرة وغيرها.واختار المرزوقي في «شرح الفصيح» أنه لا فرق بينهما، وقال أبو عمرو: يقال لعدم الاستقامة المعنوية والحسية عوج بالكسر، وأما العوج بالفتح فمصدر عوج، وصح الواو فيه لأنه منقوص من اعوج. ولما صح في الفعل صح في المصدر أيضًا، والأمت التنو، والتنكير فيهما للتقليل. وعن ابن عباس عوجًا ميلًا ولا أمتًا أثرًا مثل الشراك. وفي رواية أخرى عنه عوجًا واديا ولا أمتار أبية. وعن قتادة عوجًا صدعًا ولا أمتا أكمة، وقيل: الأمت الشقوق في الأرض. وقال الزجاج: هو أن يغلظ مكان ويدق مكان، وقيل: الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء والعوج في الأرض مختص بالعرض. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة..تفسير الآية رقم (108): {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)}{يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذا تنسف الجبال على إضافة يوم إلى وقت النسف من إضافة العام إلى الخاص فلا يلزم أن يكون للزمان ظرف وإن كان لا مانع عنه عند من عرفه تجدد يقدر به متجدد آخر. وقيل: هو من إضافة المسمى إلى الاسم كما قيل في شهر رمضان، وهو ظرف لقوله تعالى: {يَتَّبِعُونَ الداعى} وقيل: بدل من {يوم القيامة} [طه: 101]. فالعامل فيه هو العامل فيه، وفيه الفصل الكثير وفوات ارتباط يتبعون بما قبله. وعليه فقوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ} [طه: 105] إلخ استطراد معترض وما بعده استئناف وضمير {يَتَّبِعُونَ} للناس. والمراد بالداعي داعي الله عز وجل إلى المحشر وهو إسرافيل عليه السلام يضع الصور في فيه ويدعون الناس عند النفخة الثانية قائمًا على صخرة بيت المقدس ويقول: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى العرض إلى الرحمن فيقبلون من كل صوت إلى صوته.وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الله تعالى الناس يوم القيامة في ظلمة تطوى السماء وتتناثر النجوم ويذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه فذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى} إلخ، وقال علي بن عيسى: «الداعي» هنا الرسول الذي كان يدعوهم إلى الله عز وجل والأول أصح.{لاَ عِوَجَ لَهُ} أي للداعي على معنى لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه، وهذا كما يقال: لا عصيان له أي لا يعصى ولا ظلم له أي لا يظلم، وأصله أن اختصاص الفعل تعلقه ثابت كما هو بالفاعل، وقيل: أي لا عوج لدعائه فلا يميل إلى ناس دون ناس بل يسمع جميعهم وحكى ذلك عن أبي مسلم.وقيل: هو على القلب أي لا عوج لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف وحكى ذلك عن الجبائي وليس بشيء، والجملة في موضع الحال من الداعي أو مستأنفة كما قال أبو البقاء، وقيل: ضمير {لَهُ} للمصدر، والجملة في موضع الصفة له أي اتباعًا لا عوج له أي مستقيمًا، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى لا شك فيه ولا يخالف وجوده خبره {وَخَشَعَتِ الاصوات للرحمن} أي خفيت لمهابته تعالى وشدة هول المطلع، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: سكنت والخشوع مجاز في ذلك، وقيل: لا مجاز والكلام على حذف مضاف أي أصحاب الأصوات وليس بذاك {فَلاَ تَسْمَعُ} خطاب لكل من يصح منه السمع {إِلاَّ هَمْسًا} أي صوتًا خفيًا خافتًا كما قال أبو عبيدة. وعن مجاهد هو الكلام الخفي، ويؤيده قراءة أبي {فَلا يِنْطِقُونَ إِلاَّ هَمْسًا} وعن ابن عباس هو تحريك الشفاه بغير نطق، واستبعد بأن ذلك مما يرى لا مما يسمع، وفي رواية أخرى عنه أنه خفق الأقدام وروى ذلك عن عكرمة. وابن جبير. والحسن، واختاره الفراء. والزجاج.ومنه قول الشاعر:وذكر أنه يقال للأسد الهموس لخفاء وطئه فالمعنى سكنت أصواتهم وانقطعت كلماتهم فلم يسمع منهم إلا خفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر.
|